أيها المعطل الكريم! إستمع إلى نفسك وإستعرض أحاسيسك، تبين ما بك، وإستكمل شخصيتك، تلمَّس إنسانيتك وواقعك، ونمِّ ميولك الجادة لتسد فراغات الهوى، وتضيق مجاري الشيطان، وفكّر في أمورِك الحيوية، وعلّق أملك بمستقبليك المهم والأهم، وإجعل خيارك الوحيد منحصراً في بنائهما، وإنتهز بقية عمرك، وخذ زمام المبادرة، فأنت في إجازة وظيفية أو مدرسية، أو على الأقل في فرصة عمرية تجعلك قادراً على وضع العربة على الطريق الموصل إلى نقطة الفوز في المستقبلين كليهما، فحاول أن تنطلق الآن دون تسويف أو إنتظار، إذ القطار يسير ولن ينتظر عربتك إذا توقفت، ضع كل شيء في نصابه، وحدد لكل أمر زمنه المناسب حتى لا يصيبك ملل أو ضجر، إكسب من متعة نفسك أجراً، وحررها من شهوة تدنسها، وإحتنكها إلى المعالي، وطوّر صلتك بربك، وإجعل من ذاتك عبداً لخالقك، وإنظر ما لم يتسع له وقتك أثناء العام المنصرم من زيادة في عبادة، أو تحصيل علم، أو كسب رزق مباح، فأدرجه من اللحظة ضمن برنامجك، وحاول أن تزاوج بين كل ما تتوق إليه، منوعاً في نشاطك، فالنفس تواقة إلى التغيير، فأطرها على الأهم، وحصنها بالترفيه الهادف الذي لا شبهة فيه، وامنعها بالتجديد من السأم!!
وعلمها أن تدون ماذا تحب أن تفعل في المتاح من الزمن؟ وما الذي يجب أن تتداركه مما كان ينبغي لها فعلُه أيامَها الخالية، وإعمل على إزاحة الأسباب التي أدت إلى التقصير.
وإترك ناصيتك تجيب بإطمئنان عن السؤالين المذكورين كتابياً، وهي مسترخية لا تكتنفها المنغصات، وأتح لها وقتاً كافياً للإجابة، ثم إستمع إليها بكل جوارحك، وحينها ستستخرج من نفسك طموحها وما تصبو إليه، وستعرف ميولها بصدق، وكل شيء يمكن أن تجاملها فيه إلا صلتها بالله تعالى، فتلك خط أحمر، فإن كانت ميالة إلى السياحة فجاملها برحلة داخل أرجاء العالم الإسلامي، الذي تزخر مدنه بالمخطوطات والآثار ووسائل إستجمام راقية، تعانقك بعبق تراث مجيد وتاريخ إسلامي عريق.
وحين تكون قد إستخرت وقررت ضع لك برنامجاً، وقم بإعداد وسائل رحلتك حسب إمكاناتك ووجهتك، وإستحضر أن سياحة هذه الأمة تدور بين الصيام والجهاد والذكر وطلب العلم، كما تبين ذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسفاره.
يقول ابن كثير رحمه لله في تفسيره لقول الله تعالى:{السَّائِحُونَ} [التوبة:112]: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّائِحُونَ هُمُ الصَّائِمُونَ»، ثم تابع قائلاً: وعَنْ عُبَيد بْنِ عُمَير قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّائِحِينَ فَقَالَ: «هُمُ الصَّائِمُونَ»، ثم قال: فَهَذِهِ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَشْهَرُهَا.
ثم قال: وَجَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّيَاحَةَ الْجِهَادُ، وإستشهد لذلك بحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن سِيَاحَة أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، وأردف قائلاً: وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعة: أَخْبَرَنِي عُمارة بْنُ غَزِيَّة: أَنَّ السِّيَاحَةَ ذُكِرَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْدَلَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّكْبِيرَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ».
وقال: وَعَنْ عِكْرِمة أَنَّهُ قَالَ: هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ.
وتابع رحمه الله تعالى: وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ السِّيَاحَةِ مَا قَدْ يَفْهَمُهُ بَعْضُ مَنْ يَتَعَبَّدُ بِمُجَرَّدِ السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّفَرُّدِ فِي شَوَاهِقِ الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ وَالْبَرَارِي، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إِلَّا فِي أَيَّامِ الفتَن وَالزَّلَازِلِ فِي الدِّينِ، مستشهداً لذلك بحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَم يَتْبَع بِهَا شَعفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ القَطْر، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ».
ويجدر تنبيهك هنا -إن كنت أباً أو أماً أو مربياً- إلى أنه من الضرورة بمكان أن تكون قدوة مثلى، وأسوة حسنى لأولادك ومن تحت يدك، واعلم أن ذلك يحتاج منك جهداً كبيراً، خاصة في ظل صعوبة الحياة وتعقدها، وتداخل قضاياها، فزاول بين شدّ الشعرة وإرخائها حسب المقام، وإستعن بالله ولا تعجز، وإعلم أن المؤمن لابد أن يكون قوياً في عزيمته، عبداً لله تعالى في قرارة نفسه، موظفاً قريحته في إستبيان إمتحان الآخرة، والعمل على أنجع السبل للنجاح فيه، جامعاً وسائل القوة استحضاراً، لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، إحرص على ما ينفعك، وإستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».
وذلك أن المؤمن القوي أكثر إقداماً على التضحية، وأكمل شجاعة على العدو، وأرغب في الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، وأمضى خروجاً عن داعية هواه، وأسرع ذهاباً في طلب الحق، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوغر صبراً على الأذى، وأولى بإحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأكثر تعلقاً بالصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط في طلب الخيرات والقرب، وأجدر بالمحافظة عليها، وإن شاركه المؤمن الضعيف في الخيرية لإجتماعهما في أصل الإيمان وإتيان كل منهما بالعبادات والطاعات، ولكن البون بينهما شاسع.
فإحرص أخي المجاز على مراضي الله تعالى، وارغب فيما عنده، واطلب الإعانة منه جلت عظمته، ولا تترك العجز يتسلل إلى نفسك، ولا الكسل يقف في طريقك، واطلب طاعة ربك، وإستعن به، وتوكل عليه، وإستمرئ العبادة حتى تجد لذتها فتكون لك قرة عين، كما جاء في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»، ذلك أن الصلاة معيار لقياس الصلة بالله جل شأنه.
فجاهد نفسك واعلم أن الدنيا سجن المؤمن، إذ موطنه الأصلي جنات الخلد، تلك الدنيا التي هي جنة الكافر، لأن مقامه في عذاب السعير -نسأل الله العافية- كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر».
وداوم على مراجعة علاقتك بربك من خلال إستنطاق قلبك، وواقع سريرتك، ومستوى صلتك بالقرآن، وتسبيح خالق الأكوان، وتحميد الرحيم الرحمن، وتهليل الملك الديان، وتكبير مصرف الأزمان، ومعدل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومقدار المداومة على الأدعية والأذكار الموقتة والمطلقة، فإن لمست واقعاً يجيش بتمام ذلك، فأبشر ثم أبشر بتفريج الله تعالى بمنه وكرمه لهمك، وإزالة غمك، وإذهاب حزنك، وتأكد أنك من الفائزين بجائزة الإجازة.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
الكاتب: أحمد ولد محمد ذو النورين.
المصدر: موقع المحتسب.